يدعو الفيلسوف الألماني، الكوري الجنوبي الأصل، بيونغ شول هان، في كتابه "الحياة التأملية أو في مديح الخمول"، الصادر بترجمته الفرنسية عن دار "أكت سيد" (2024)، إلى اتباع أسلوب حياة غريب، يتمثّل بالخمول، والتوقف عن العمل.
ينظر الكاتب المولود عام 1959، بارتياب إلى ميزة العصر الاستهلاكي الحالي، المتّسمة بالتسارع المحموم نحو العمل أكثر، وتحقيق ربح أكبر، وتقديم أفضل أداء، حتى صارت الحياة ملازمة لأنشطة متتالية طيلة الوقت.
هذه الوضعية برأي الكاتب، تقتل في الإنسان ملكات الإبداع والارتياح الصافي، ويصير مجرد أداة ميكانكية من دون روح. وإن حدث واضطر إلى التوقف في اللحظات التي تسمّى أوقات الفراغ، فذلك كي يستأنف العمل من جديد، ويكسب المزيد من الفوائد المادية، فالوقت بنظره ليس إلا حلقة من حلقات الإنتاج، لمزيد من الاستهلاك فقط".
يرى الكاتب، أن كل ذلك لا جدوى تُرجى منه لتحقيق السعادة الحقيقية، لأنه في العمق يهدّد وجود الإنسان. لذا يجب رفض القيام بأي نشاط والركون إلى الخمول.
يقول في فصل "مشاهد عن الخمول": "الخمول يعطي للحياة بريقها. إذا فقدنا القدرة على عدم القيام بأي نشاط، نتحوّل إلى آلات واجبها الوحيد العمل. وتبدأ الحياة الحقيقية في اللحظة التي يتوقف فيها الاهتمام بغريزة البقاء لا غير، وضرورة البحث عن الحياة البسيطة. إن الهدف النهائي للمسعى البشري هو الخمول".
الحياة التأملية
هذا الخمول، لا يعني الجمود أو العجز أو الرفض المطلق لأيّ فعل، وليس مرادفاً لإضاعة الوقت، بل رفاهية الحصول على اختيار الأنشطة غير المرتبط بالإنتاجية، أي من دون تحديد هدف مُسبق، أو رسم خطة لبلوغ أمر ما في نهاية المطاف.
يرى الكاتب أن الخمول يمكّننا من استعادة معنى ومذاق الحياة، واستعادة الحياة الباطنية لكل فرد. إنه وقت حُرّ يرمي إلى العيش في كنف الحياة التأملية، الكفيلة بفتح أبواب الهناء، الجسدي والروحي معاً. وهذه الأخيرة تتحقّق عبر التجارب الحياتية المفيدة والابداعية، ويُقصد بها تلك التي يقوم بها الفرد من تلقاء نفسه، خارج الأوامر والضوابط والإملاءات.
يقول الفيلسوف في هذا الصدد: "نصبح مُدرِكين للأرض التي نجد أنفسنا واقفين عليها، وللفضاء الذي يضمّ ذواتنا، عندما نكون في حالة من الخمول فقط".
يضيف: "حينها تدخل الحياة في وضعية التأمل، وتعود إلى سبب وجودها السري، وهو التمتّع بلذة العيش. وحينها تلفت حياة الإنسان إلى الوراء وتنظر إلى نفسها [ما دامت تخلَّصت من عبودية العمل وسلطة الزمن]، إنها تصل إلى جوهرها العميق. وحده الخمول يكشف لنا جوهر الحياة".
مزايا الملل والنوم والانتظار
يبرهن بيونغ تشول هان الأمر على أهمية الخمول، من خلال الحديث عن حالات محدّدة يعيشها الإنسان باستمرار، ولا يعرف أهميتها ومنافعها، معتقداً أنها بلا فائدة. هذه الحالات تُجمّلها الأفعال التالية: ينام، يَملّ، ينتظر، يصمت. أي عندما يكون خاملاً، من دون أي نشاط خارجي، هي في حقيقة الأمر أوضاع تخضعه للتأمل، لأنه يصير حرّاً، وتصبح وضعية الخمول حرية حقيقية.
في النوم يحلم، أي أن الذات تشتغل من خلال عمل اللاوعي وما اختزنته ذاكرته. وفي وضعية الملل، يلتفت إلى نفسه ومحيطه، وإلى المكان الذي يتواجد فيه وإلى الزمان الذي يلفّه أي الوعي بوجوده، في معزل عن أي قيود خارجية.
وحين ينتظر، يسعى إلى أن يملأ وقته بالتفكير فيما يجب أن يفعله. وعندما يصمت، يستطيع أن يتذكر شيئاً لم يسمع به أحد من قبل، على غرار ما يحدث للمبدعين، فوحده الصمت يمكّنه من الخلق.
هكذا تتحقّق الحياة التأملية التي تعيده إلى ذاته. بدَل جفاف الحياة الاستهلاكية، التي تجبره على تلبية حاجاته العاطفية والعملية، حيث لا صبر ولا انتظار ولا لحظات راحة وتأمّل.
"إن الخمول يُعلّمنا أن ننضج الأشياء ببطء، أما الأفعال السريعة فهي مجرد ردود أفعال".
يقول الكاتب: "النوم والملل من حالات الخمول. فالنوم هو أقصى درجات الاسترخاء البدني، بينما الملل هو أقصى درجات الاسترخاء الذهني. أما الانتظار فهو الموقف الذي يوجد فيه الشخص المتأمّل والخامل، فتنكشف له حقيقة مختلفة تماماً، لا يستطيع أي نشاط أو فعل الوصول إليها".
بريق الحياة الإلهي
في فصول الكتاب الستة، يقدّم بيونغ شول هان، أمثلة ساطعة عن التجليات الأربعة للحياة التأملية، بإيراد ما كتبه بخصوصها فلاسفة مثل هايدغر، الذي استلهم منه الكثير من المفاهيم، ونيتشه وأدورنو وحنا أرندت، وكُتّاب مثل مارسيل بروست في روايته الكبرى "البحث عن الزمن الضائع"، وروبر موزيل في رائعته "رجل بلا مزايا"، ورولان بارث، والشاعر ريلكه، والشاعر هولدرلين، والفنان التشكيلي الذي فتح باب الحداثة الفنية، بول سيزان.
يستعين الكاتب بهؤلاء جميعاً لتأكيد ما يقترحه، في حوار فلسفي ذي طبيعة شعرية، تتراوح بين الاقتباسات المضيئة وتأويلها بحسب منطق فلسفي رائق.
فالذي يجعلنا نفهم حقيقة الإنسان، ليس العمل الذي يبقى دائماً موجّهاً ونفعياً وخاضعاً للإملاءات، بل الثقافة، وهذه الأخيرة لا تخضع لشروط العمل الرأسمالي الحالي.
يدعو الكاتب إلى إعادة النظر في الأشياء، في مجالات الفن والفلسفة والسياسة. ويقول في هذا الصدد: "جوهر الثقافة هو تجميل الأشياء لذاتها، ما يُحرّرها من كل غرض مادي، وما يجعل الحياة أكثر من مجرد نزوع نحو البقاء. فالذي يمنحها بريقها، هو هذا الجمال المطلق المُنزّه عن المنفعة، الذي نلتَذّ به، ويجعلنا نعشق الحياة بشكل احتفالي دائم".
التأمل في العصر الرقمي
لكن إشاعة الجمال والدعوة إلى التأمّل ليسا يسيرين، بسبب عوامل تشتيت الانتباه والإغراءات المستمرة في العصر الرقمي، وطغيان الشاشات المختلفة الأحجام والوظائف في كل فضاء ومكان، فضلاً عن انتشار الهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تضخّم من ذلك كله وتضاعفه.
"فالعالم ملوّث ليس فقط بالنفايات والمواد، ولكن بالاتصالات والمعلومات غير الضرورية أيضاً، التي تملأ وسائل التواصل والإعلانات وغيرها".
الخمول يصنع المستقبل
إلى جانب هذا التلوّث الإخباري الاعلامي، نتيجة سطوة النشاط الإنساني اللامحدود، وذيوع الحياة الاستهلاكية المتعاظمة، يذكر الفيلسوف مسألة استنفاذ البشر لكل ما تملكه الأرض من ثروات طبيعية، والأضرار التي ألحقوها بالبيئة والمناخ.
وتحت عنوان "من الفعل إلى الوجود"، يرى الكاتب أن تصرفات البشر تتجاوز نطاق العلاقات الشخصية فيما بينهم، لتعيث فساداً في الطبيعة، فيُخضعها لإرادته بالكامل. ويطلق العنان لعمليات لا يمكن أن تتم من دون تدخله، وتؤدي إلى فقدان السيطرة تماماً".
هكذا، وبعد أن قضى الإنسان على ماضيه الذي لا يتذكّره في خضم نسيانه لذاته نتيجة العمل المستمر، وبعد أن صار يعيش الحاضر لا غير، ها هو في الطريق للقضاء على مستقبله أيضاً.
فأيّ أرض سيأوي إليها بعد أن تنقطع صلته بذاته وبغيره، وبعد أن تسبّب في انهيار التوازن المناخي والجغرافي الضامن للحياة؛ وأيّ حلّ مُتاح له كي يترك "العمل" ويعود إلى "الوجود" الحقيقي. الجواب برأي الكاتب هو "الخمول الذي يعيد صياغة أسئلة جديدة لحياة جديدة غير مُستلبة".